قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)..
آية بينة من كتاب الله عز وجل توجه العقل الإنساني إلى عجائب هذا الكون في الخلق، والتصريف، والتدبير؛ فينظر الإنسان مشاهد هذا الكون بحسٍّ متجدد، ونظرة مستطلعة؛ فيشرق قلبه بالإيمان.
فتعالوا معا لنقف عند هذه الآية وقفة تدبر لكي نغوص في غمار معانيها وهي تصور لنا معالم قدرة الله في الكون، وتنبئنا ببديع صنعه جل وعلا الذي أتقن كل شيء خلقه؛ لتقود الجميع للاعتراف الحقيقي بوحدانية الله، والخضوع له، والإقرار الكامل بأن لهذا الكون إله مدبر، ورب مسخر.. فيزداد الذين آمنوا إيمانا وهدىً ويقينا، أما الذين طبع داء الاستكبار غشاء الغفلة على قلوبهم فعميت أبصارهم فهم لا يبصرون.
فالكون كتاب مفتوح؛ فالمتأمل فيه بعين البصيرة وقلب الحقيقة يكفيه عبرة وموعظة، ولكن لا يدرك حقيقة ذلك إلا العاقلون المتدبرون، وصدق الله عز وجل القائل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أيْ يدركون بتفكيرهم وإيمانهم أن هذا الكون وما فيه من آيات لم يخلق عبثاً؛ وإنما خلق ليدل دلالة لا لبس فيها على قدرة الله ووحدانيته؛ فلو كان فيهما آلهة أخرى لفسدتا كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)..
فالعاقلون أولو الأبصار هم الذين أدركوا ذلك حقاً؛ لأنهم اتخذوا من التفكير عبادة، ومن النظر إلى الكون طاعة؛ قال تعالى واصفا إياهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
فميدان التفكير - من خلال النظر إلى الكون - الذي فتحه القرآن أمام الإنسان بكل أبعاده، وما فيه لهو دعوة للتأمل للوصول للحق.
فخلق السموات بغير عمد نراها، وما فيها من معالم، وعالم علوي، والأرض التي بسطها الله، وما فيها من جبال راسيات، وأنهار، وبحار؛ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وما بينهما من السحاب مسخر تحمله الرياح بتصريف الله وعظيم قدرته نعمة للعباد ليمطر عليهم رحمة، ونماءًا، وغيرهما من الآيات الكونية، التي لا تحصى ولا تعد؛ كل ذلك دلالة كبرى، وآيات عظمى، وحجة قاطعة على وحدانية الله وقدرته؛ العزيز العليم، بديع الصنع، الحكيم الخبير.
لا تنكرها الأبصار، ولا يحد العقل عن إدراك حقيقتها مهما تكبر، واستكبر بالجحود، والإنكار لوحدانية الله، وقد أجاب الأعرابي بلسان الفطرة السليمة، وعقل المتدبر عندما سئل: كيف عرفت الله؟؛ فقال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على الحكيم الخبير؟!).
نعم إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ تقود الناس بفكر ثاقب، ونظرة فاحصة إلى أن لهذا الكون خالقا خلقه بالحق وهو الله جل في علاه، وتبارك في سماه؛ فلا أحد سواه.. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
وتقود الفطرة الإلهية إلى الإقرار بوحدانية الله، والاعتراف بأنه هو الخالق كما ذكر الله عن ملة عن ملة الكفر وغيرهم عندما يسألون عن خالق الكون فلا يجدون إلا أن يقولوا الحق قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهكذا تراهم عندما تحل بهم الأهوال، وينزل بهم الضرُّ يعودون إلى فطرتهم مقرّين بقدرة الله، وأنه هو وحده الذي يكشف عنهم الضرّ؛ تاركين آلهتهم، ومعتقداتهم الباطلة؛ قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
تلك طبيعة أولئك الذين لم يؤمنوا حقاً فكانوا من الخاسرين.. فالإيمان هو الذي يقود الإنسان إلى التأمل والتفكير، ويدفعه للنظر في آيات الكون بعين البصيرة والتدبر؛ ليكون من الموقنين حقا؛ الذين قال الله فيهم: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً).
فالتأمل في الكون، والوقوف عند آياته، وما حوله لا تحيط به حدود، ولا تحصره الأقلام، ولا يدرك خبايا أسراره إلا الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى.
إلهي يا رب:
ما في الوجود سواك رب يُعبَدُ ** كلا ولا مَولى هناك فيُقصَدُ
يا من له عَنَتِ الوجوه بأسرها ** رَهباً وكلُّ الكائنات تُوَحّدُ
_________________